غيبة الروح ... ظهور الجسد


عندما وصل في تلك الليلة إلى ذلك الملهى، أثار انتباه الجميع، لا يملك تلك الهيبة المخيفة، لكنه يملك ذلك الحضور الطاغي والعاصف، ذو إطلالة جميلة، وجسد يشتهي الحياة كأنه خلق في لحظة وصل فيها الجمال إلى قمة التجلي، يشبه الآلهة القديمة في إطلالته، ذو بهاء نقي ومطلق، خاصة وهو يرتدي ذلك القميص ذو اللون الأرجواني، بدا في منتهى الأناقة، حليق الرأس، يرتدي في أذنه قرطا صغيرا، دخل مزهوا بروحه النقية، بدا ذلك جليا في عينيه، لم يكن يدرك أحد أن سر جماله يكمن في روحه، فملامحه عادية، لكنه يمتلك ذلك الوهج في عينيه، كان آيات النور قد تم اختصارها في تلك العينين، عندما تراهما تغفر له ما لا تغفره للآخرين، يباح له ما لا يباح للآخرين، دخل إلى الملهى وكأن الجميع في خلق من أجل فرصة لقاءه في تلك الليلة .
عندما اخذت تتعالى الموسيقى اخذ هو يبث الحياة في جسده، ويرقص في حالة تشبه الصلاة، كأن ما يمارسه من رقص طقسا دينيا قديما، يصفي الروح ويعطي العالم مسحة جديدة من الحب، لم يكن رقصه مبتذلا، بل كان آية من آيات الجمال، كان يعرف أن يزداد جمالا كلما رقص، وكان يعرف ان الجميع ينظر إليه بتلك النظره الشهوانية، الجميع يتتبعه ويشتهي أن يمتلك هذا الجسد، وتلك الحياة التي تنبض في كل مفصل منه، طبعا لم يكن ذلك مستهجنا، فهو احد أشهر الراقصين المحترفين في عمّان، وفي كل حركة يسمعك قصيدة نابضة بالحياة، وفي كل التفاتة يختصر الحياة بنغم جميل يسكن إلى القلب.
ينهي صلاته ويتهافت الجميع إليه، أحدهم يطمع في صداقته، وبعضهم يغريه السحر فيصبو لاكتشافه، وبعضهم تعتريه تلك الشهوة الحيوانية في معرفة تفاصيل الجسد، ويغيب عن أذهانهم أن جمال جسده يكمن في الروح التي تسكنه، تدلل عليهم قليلا، تجاذب اطراف الحديث مع هذا وتلك، ومنح قبلة لهذه الصبية، وتلمس شعر تلك الفتاة، غمز لذلك الشاب، وضحك في وجه الآخر، فهو يملك ذلك الذكاء الاجتماعي الذي يملك به الجميع، وكانهم مجموعة من الخواتم يرتديهم وقتما يشاء وينزعهم كلما شاء، ولم يكن واحدا بالنسبة له خاتما ذهبيا، كلهم كانوا عبارة عن خواتم رخيصة، لكنه يستمتع بارتداء تلك الخواتم... وبارتداء اولئك الناس..... هو فقط كان يبدو كالماسة النفيسة، مشع وباهظ الثمن، لا يناله أحد.... لم يكن يهتم لأمر احد ولكن لا أحد لايهتم لأمره، فالجميع يحيطونه طوال الوقت، لا يملك وقتا خاصا ليفكر إن كان يحتاج لأحد منهم.
قلنا أنه يشبه الآلهة، لكنه من آلهة الليل، يقضي وقته بين المراقص والملاهي، يعرف ان معابده تمتلأ بسدنتها في الليل فقط، وقبل دخوله إلى عالم الليل ينظر إلى مرآته فتمنحه ذلك التألق اليومي والسحر الجميل الذي لا يناله سواه، وكلما وقف أمامها رأى ذلك الجسد الذي ينطق بالحياة، ولم يلتفت يوما إلى روحه وما شتشهيه من هذه الحياة، ربما لأنه يتصرف كالآهة والآلهة لا يحق لها التفكير بذاتها،ن عليها أن تفكر بمتعة الآخرين وتحقيق رغباتهم، وربما تعذيبهم أيضا. عدا أنه في تلك الليلة التفت إلى احدهم، شعر أن هذا الشخص قد تلمس ما ينبض بين جوانحيه، وهذا الوجه ليس كباقي الوجوه التي يراها كل ليلة ، فهو يعرف مدى حقيقة تلك الوجوه، عدا أنه يرى جانبه الانساني في هذا الوجه، رأى جانبا منه خارج المعابد والمراقص والمسارح، في تلك اللحظة أراد ان يعرف أي الوجوه التي يراها كل ليلة ترنو إلى روحه، فأراد ان يدخل في غيبته الأولى ويعرف ماهية حضوره، هل حضوره هو حضور الجسد، ام حضور الحياة النابضة فيه؟ تراجع عن الفكرة سريعا عندما رأى حضوره في ذلك الوجه الجديد. ذكره ذلك الوجه بعمان في الصباح، تذكر تلك الملامح التي لم يعد بألفها، تذكر الابتسامة النقية الخالية من أي نشوة، إلا نشوة الحياة، تذكر أن عمان مدينة تحترف العشق، وتعلمه لأبنائها أبجدية حية، ينطقون بها ويفكرون من خلالها، تذكر أيضا ان عمان تصنع من العشق آيات من الفن والجمال والحرية ... والحب.
فقد لمس تلك الأبجدية يوما في عمان، في تلالها ، في بيوتها وأدارجها، لكنه لم يعش هذا الحب من قبل، لم يعرف تلك الرعشة اللذيذة التي تصيب الجسد، رعشة لم تعتريه من قبل، رغم كل ارتعاشات الرقص، ولأول مرة رأى نفسه بشرا عاديا لا يلتفت إليه أحد، أراد أن ينتمي في لحظة إلى تلك الحياة، أراد ان تذوب ملامحه في ملامح عمان اشتاق لها واشتاقات إليه، أراد ان يعيش صداقة تحت ضوء النهار، وليس في أروقة المراقص، وعتمة كواليس المسارح....
ورغم أنه أراد ذلك بقوة، تذكر أن هذا الوجه وأن عمّان لن تحتمل عبث جسده، فأدخل روحه في غيبة عميقة داخل جسده الراقص. ورغم ان غيبة روحه النقية لا زالت مستمرة إلا أن الحكاية قد لاتنتهي هنا، ولكن نهاية البوح عه الآن ينتهي هنا، غابت الروح، وظل الجسد يرقص ويقدم آيات جدية من الجمال، ولكنه ليس جماله الحقيقي.

No comments:

Post a Comment